فترة مادورو الثالثة في فنزويلا مهدّدة برياح واشنطن

فترة مادورو الثالثة في فنزويلا مهدّدة برياح واشنطن

الاتهامات التي وجهتها المعارضة للنظام الفنزويلي بتزوير نتائج الانتخابات أكّدها المراقبون الدوليون المستقلون، مثل «مركز جيمي كارتر» الأميركي الذي يتمتع بسمعة حيادية عالية، وكان النظام دعاه لمتابعة العملية الانتخابية ومراقبتها، منوهاً بما له من مصداقية. لكن عندما أعلن المركز المذكور أنه لا يمكن اعتبار الانتخابات ديمقراطية، وأن النتائج الرسمية المعلنة ليست نزيهة، شنّ النظام عليه حملة واتهمه بالكذب، ولم تنفع جميع الاحتجاجات الإقليمية والدولية في منع الاحتفال بتنصيب مادورو التي قاطعتها معظم الدول الديمقراطية.

مضاعفة العقوبات

يذكر أن الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي قرّرت مضاعفة العقوبات المفروضة على قيادات النظام الفنزويلي الذي بدت عزلته الدولية والإقليمية واضحة في احتفال التنصيب الذي لم يحضره سوى الرئيس الكوبي ميغيل دياز كانيل والنيكاراغوي دانيال أورتيغا. وبعد عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، ومعه فريق من «صقور» اليمين، يتوقع أن تواجه القوى اليسارية في أميركا اللاتينية فترة عصيبة.

وحقاً، حتى بعض الأنظمة اليسارية أدانت ما وصفته بانتهاكات حقوق الإنسان التي يرتكبها النظام في فنزويلا. إذ صرّح الرئيس التشيلي غابريال بوريتش قائلاً: «من موقع اليسار أقول لكم إن حكومة مادورو ديكتاتورية»، وأعقبت تصريحاته مواقف مماثلة صدرت عن مسؤولين في الحكومتين البرازيلية والمكسيكية.

في أي حال، شهدت بداية الولاية الثالثة لمادورو تصعيداً ملحوظاً في «الخطاب الحربي» للنظام، سبقته حملة واسعة من القمع السياسي ومحاصرة الاحتجاجات الشعبية التي كانت تنظمها المعارضة اليمينية، وإطلاق التهديدات ضد قياداتها. وبلغ التوتر منسوباً عالياً عشية التنصيب عندما ألقت الأجهزة الأمنية القبض على زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، قبل إطلاقها سراحها بعد ساعات، في ظروف ما زال الغموض يكتنفها حتى الآن.

كل هذه التطورات حالت دون تنفيذ مرشح المعارضة إدموندو غونزاليس أورّوتيا – الذي اعتبرته دول عدة فائزاً في الانتخابات وأخرى رئيساً منتخباً – وعده بالرجوع إلى كاراكاس لتسلم مهامه رئيساً جديداً في الموعد المحدد. وكان غونزاليس قد اتهم الرئيس نيكولاس مادورو بتنفيذ «انقلاب»، وأكّد أنه سيعود إلى فنزويلا لمواصلة النضال من أجل عملية انتقال سلمي للسلطة «متى توافرت الضمانات الكافية لأمنه والظروف المناسبة».

إحباط الداخل… ودور الخارج

لكن، بينما تسود أجواء الإحباط بين القواعد الشعبية المعارضة التي اعتادت على مثل هذه الظروف، دعت قيادات معارضة المجتمع الدولي إلى مضاعفة الضغوط على النظام؛ لمنعه من المضي في حملة القمع والاعتقالات، التي أطلقها منذ أسابيع وكبح سلسلة التجاوزات التي تمارسها الأجهزة الأمنية والقضائية.

من جهة ثانية، لم تسلم المعارضة نفسها هذه المرة من انتقادات قواعدها الشعبية التي اتهمتها برفع منسوب التفاؤل بسقوط النظام إلى مستويات غير واقعية، وأيضاً الرهان على تحرك إقليمي ودولي فاعل لم تظهر له أي بوادر. وللعلم، اكتفى البيان المشترك الذي صدر عن وزراء خارجية «مجموعة الدول الصناعية السبع» بالقول: «إن تسلّم نيكولاس مادورو مقاليد السلطة رئيساً لفنزويلا لا شرعية له»، بينما طالب رئيس كولومبيا الأسبق اليميني ألفارو أوريبي بتدخل عسكري دولي «يجتثّ زمرة الطغاة من السلطة ويعيدها إلى أصحابها الشرعيين». لكن هذه المطالبة أدت إلى حملة اعتقالات واسعة في أوساط القيادات المعارضة الفنزويلية بتهمة «التواطؤ مع جهات خارجية لقلب النظام بالقوة»، بينما كانت القوات المسلحة الفنزويلية ترفع حالة التأهب وتقرر إقفال الحدود مع كولومبيا المجاورة.

في سياق متصل، على صعيد ضيق حكومات يسارية في القارة من الوضع في فنزويلا، أعلن الرئيس الكولومبي غوستافو بترو أن الحكومة الفنزويلية تُمعن في تجاوزاتها وقمعها ضد رموز المعارضة السياسية، لكنه دافع عن امتناعه عن قطع العلاقات الدبلوماسية مع كاراكاس، قائلاً: «الإبقاء على علاقاتنا الدبلوماسية مع فنزويلا لا يعني الاعتراف بشرعية الانتخابات، التي لم تكن حرّة منذ بداياتها عندما قرّر النظام حرمان زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو من الترشح».

الحكومة البرازيلية التي يقودها لويس إيناسيو لولا – وهي النظام اليساري الوازن حالياً في أميركا اللاتينية – قرّرت بدورها ألا تعترف برئاسة مادورو، لكنها رفضت أيضاً الاعتراف برئاسة مرشح المعارضة. ومن ثم، دعت القوى السياسية الفنزويلية إلى استئناف الحوار لتسوية الخلافات، معربة عن استعدادها – إلى جانب فرنسا – لتسهيل هذا الحوار تمهيداً لمصالحة نهائية. وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد بحث مع نظيره البرازيلي لولا في مكالمة هاتفية طويلة الوضع في فنزويلا، واتفقا على مضاعفة جهود الوساطة لتيسير عودة الاتصالات بين مادورو والمعارضة من أجل العودة إلى الديمقراطية وتحقيق الاستقرار، وطالبا النظام بالإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين.

تصعيد واشنطن

في موازاة ذلك، قبل تولي ترمب، أعلنت الإدارة الأميركية السابقة بعد ساعات من تنصيب مادورو، رفعها مكافأة المساعدة على اعتقال كل من الرئيس الفنزويلي ووزير الداخلية ديوسادو كابيو إلى 25 مليون دولار، كما رفعت أيضاً قيمة المكافأة للقبض على وزير الدفاع فلاديمير بادرينو إلى 15 مليون دولار.

ويذكر أن وزير الخارجية الأميركي (السابق) أنطوني بلينكن قال إن تنصيب مادورو رئيساً «ليس شرعياً»، وطالب بتنصيب مرشح المعارضة إدموندو غونزاليس وإطلاق عملية انتقال سلمية وديمقراطية للسلطة. كذلك، فرضت الحكومة الكندية عقوبات على 14 من كبار موظفي الحكومة الفنزويلية بسبب «مشاركتهم او دعمهم انتهاكات لحقوق الإنسان».

«عُزلتا» مادورو تعزّزان مكانة صعب

الأوساط الدبلوماسية المراقبة من كثب الوضع الداخلي الفنزويلي ترى أن العزلة الإقليمية والدولية المتزايدة التي يتعرّض لها النظام، توازيها عزلة أكبر على الصعيد الداخلي يعاني منها مادورو الذي لم يعد يثق سوى بحفنة ضئيلة من الأوفياء لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة. وتعتقد هذه الأوساط أن النظام لن يسقط إلا من الداخل، بفعل التصدّع الذي يتنامى بين قياداته وشخصياته البارزة التي تسعى للحصول على ضمانات بعد انهياره.

من الأوفياء الذين يتمتعون بثقة مادورو التامة، المدّعي العام طارق صعب، الذي قرر الرئيس أخيراً تكليفه ترؤس عملية الإصلاح الدستوري الذي كان أعلن عنه قبل الانتخابات الرئاسية ويريد الآن تسريع وتيرته من غير أن يكشف عن تفاصيل مضمونه أو أهدافه. ووفق كلام مادورو: «طلبت إلى طارق وليام صعب تولي رئاسة اللجنة الوطنية للإصلاح الدستوري استناداً إلى خبرته القانونية الطويلة، ودفاعه عن حقوق الإنسان، وبصفته أصغر أعضاء اللجنة الرئاسية التي شكَّلها القائد هوغو تشافيز لوضع الدستور عام 1998. وهو مؤهل أخلاقياً ومهنياً لأداء هذه المهمة على أكمل وجه».

روبيو مع دونالد ترمب (أ ف ب)

التعليق الأول الذي صدر عن المعارضة على هذه الخطوة كان القول إن طارق صعب هو المسؤول عن آلاف الاعتقالات السياسية، وعن «فبركة» عشرات ملفات الاتهام ضد الزعماء المناهضين للنظام. وبحسب زعيمة المعارضة ماريا ماتشادو «دخل مادورو مرحلة الهروب إلى الأمام، وأصبح التغيير حتمياً… وهو آتٍ عاجلاً أو آجلاً».

ختاماً، يذكر أن الزعيم السابق هوغو تشافيز كان قد لجأ في عام 2007 إلى تعديل الدستور لاحتواء الاحتجاجات الطلابية التي اشتعلت في معظم أنحاء فنزويلا، لكنه خسر رهان الاستفتاء الذي كان أولى الهزائم التي مُني بها، حين كان يحاول إرساء نظام شعبي لا يضع حداً لعدد الولايات الرئاسية.